فصل: دَفَعَ إلَى عَبْدٍ مَحْجُورٍ عَلَيْهِ أَوْ إلَى يَتِيمٍ مَحْجُورٍ عَلَيْهِ مَالًا لِيَتَّجِرَ بِهِ:

مساءً 8 :52
/ﻪـ 
1446
جمادى الاخرة
29
الإثنين
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المدونة (نسخة منقحة)



.فيمَا وُهِبَ لِلْمَحْجُورِ وَمَا اسْتَفَادَ هَلْ يُحْجَرُ عَلَيْهِ:

قُلْت: أَرَأَيْتَ مَا وُهِبَ لِلْمَحْجُورِ عَلَيْهِ مِنْ مَالٍ أَيَدْخُلُ ذَلِكَ الْمَالُ في مَالِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ فيهِ؟
قَالَ: نَعَمْ؛ لِأَنَّ مَالِكًا قَالَ: لَوْ أَنَّ سَفيهًا تَجَرَ فَأَصَابَ مَالًا، يُحْجَرُ عَلَيْهِ فيهِ.
وَلَقَدْ سَأَلْنَا مَالِكًا عَنْ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ، يَدْفَعُ إلَيْهِ وَلِيُّهُ الْمَالَ لِيَتَّجِرَ بِهِ، يَخْتَبِرُهُ فيهِ وَيُخَلِّي بَيْنَهُ وَبَيْنَ التِّجَارَةِ، فيرْكَبُهُ الدَّيْنُ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ في ذَلِكَ شَيْءٌ، لَا مِمَّا في يَدَيْهِ وَلَا في غَيْرِهِ مِمَّا يُحْجَبُ عَنْهُ.
قَالَ: فَقُلْنَا لِمَالِكٍ: إنَّهُ قَدْ خَلَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ التِّجَارَةِ.
قَالَ: هُوَ مُوَلًّى عَلَيْهِ، وَلَا يَجُوزُ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ الدَّيْنِ.

.في اشْتِرَاءِ الْمَحْجُورِ طَعَامَهُ وَمَا يُصْلِحُهُ:

قُلْت: أَرَأَيْتَ الْمَحْجُورَ عَلَيْهِ، هَلْ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ اللَّحْمَ بِالدِّرْهَمِ وَالْبَقْلَ وَالْخُبْزَ لِبَنِيهِ أَمْ لَا؟
قَالَ: لَمْ أَسْمَعْ مِنْ مَالِكٍ فيهِ شَيْئًا، وَأَرَاهُ جَائِزًا أَنْ يَشْتَرِيَ هَذَا وَمِثْلَهُ؛ لِأَنَّهُ يَسِيرٌ وَهُوَ يَدْفَعُ إلَيْهِ نَفَقَتَهُ فيشْتَرِي بِهَا مَا يُصْلِحُهُ.

.في اسْتِئْجَارِ الْعَبْدِ بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهُ وَأُمِّ الْوَلَدِ وَالْمَرْأَةِ بِغَيْرِ إذْنِ زَوْجِهَا:

قُلْت: أَرَأَيْتَ أُمَّ الْوَلَدِ إذَا أَرَادَتْ أَنْ تَتَّجِرَ، فَمَنَعَهَا السَّيِّدُ مِنْ ذَلِكَ، أَيَكُونُ ذَلِكَ لِلسَّيِّدِ أَمْ لَا؟
قَالَ: ذَلِكَ لِلسَّيِّدِ عِنْدَ مَالِكٍ؛ لِأَنَّ مَالِكًا قَالَ: أَنْ يَنْزِعَ مَالَ أُمِّ وَلَدِهِ، فَلَمَّا كَانَ لَهُ أَنْ يَنْزِعَ مَالَهَا، كَانَ لَهُ أَنْ يَمْنَعَهَا مِنْ التِّجَارَةِ.
قُلْت: أَرَأَيْتَ امْرَأَةَ رَجُلٍ أَرَادَتْ أَنْ تَتَّجِرَ، أَلِزَوْجِهَا أَنْ يَمْنَعَهَا مِنْ ذَلِكَ؟
قَالَ مَالِكٌ: لَيْسَ لَهُ أَنْ يَمْنَعَهَا مِنْ التِّجَارَةِ، وَلَكِنْ لَهُ أَنْ يَمْنَعَهَا مِنْ الْخُرُوجِ.

.في الْوَصِيِّ يَدْفَعُ إلَيْهِ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ مَالًا يَتَّجِرُ بِهِ:

وَسَأَلْتُ مَالِكًا عَنْ الْوَصِيِّ يَحْتَلِمُ الْغُلَامُ الَّذِي قَدْ أُوصِيَ بِهِ إلَيْهِ، وَيَرَى مِنْهُ بَعْضَ مَا يُرِيدُ أَنْ يَخْتَبِرَهُ بِهِ في حَالَاتِهِ فيدْفَعُ إلَيْهِ الْخَمْسِينَ الدِّينَارَ أَوْ السِّتِّينَ الدِّينَارَ لِيَتَّجِرَ بِهَا فيرْهِقُهُ في ذَلِكَ دَيْنٌ، أَتَرَى ذَلِكَ الدَّيْنَ عَلَيْهِ؟
قَالَ: قَالَ مَالِكٌ: لَا أَرَى أَنْ يَتْبَعَ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ الدَّيْنِ الَّذِي لَحِقَهُ، لَا مِمَّا في يَدَيْهِ مِنْ السِّتِّينَ الدِّينَارِ الَّتِي أَعْطَاهُ وَصِيَّهُ يَتَّجِرُ بِهَا وَلَا في مَالِهِ الَّذِي في يَدِ الْوَصِيِّ.
قَالَ: فَقِيلَ لَهُ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ إنَّهُ قَدْ أَمْكَنَهُ وَصِيُّهُ مِنْ بَعْضِ مَالِهِ وَدَفَعَهُ إلَيْهِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَتَّجِرَ بِهَا وَأَذِنَ لَهُ أَنْ يُتَاجِرَ النَّاسَ بِهَا.
قَالَ مَالِكٌ: هُوَ مُوَلًّى عَلَيْهِ حَيْثُ لَمْ يَدْفَعْ إلَيْهِ مَالَهُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ الْإِذْنُ بِإِذْنٍ.
قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: وَالْعَبْدُ مُخَالِفٌ لِهَذَا، لَوْ أَنَّ السَّيِّدَ دَفَعَ إلَيْهِ مَالًا لِيَتَّجِرَ بِهِ كَانَ مَأْذُونًا وَلَا يُشْبِهُ الْوَصِيَّ.
قَالَ سَحْنُونٌ: وَقَالَ غَيْرُهُ في الْيَتِيمِ: إنَّهُ يَلْحَقُ الدِّينَ الْمَالُ الَّذِي في يَدَيْهِ الَّذِي أَعْطَاهُ وَلِيُّهُ يَخْتَبِرُهُ بِهِ.

.في الْوَصِيِّ يَأْذَنُ لِلصَّبِيِّ بِالتِّجَارَةِ إذَا كَانَ يَعْقِلُ التِّجَارَةَ:

قُلْت: أَرَأَيْتَ الصَّبِيَّ إذَا كَانَ يَعْقِلُ التِّجَارَةَ، فَأَذِنَ لَهُ أَبُوهُ أَوْ وَصِيُّهُ في التِّجَارَةِ، أَيَجُوزُ ذَلِكَ أَمْ لَا؟
قَالَ: لَا أَرَى ذَلِكَ جَائِزًا؛ لِأَنَّ الصَّبِيَّ مُوَلًّى عَلَيْهِ، فَإِذَا كَانَ مُوَلًّى عَلَيْهِ، فَلَا أَرَى الْإِذْنَ لَهُ في التِّجَارَةِ إذْنًا.
قُلْت: لِمَ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ الشِّرَاءُ وَالْبَيْعُ إذَا أَذِنَ لَهُ وَلِيُّهُ، وَالْعَبْدُ الْمَحْجُورُ مُوَلًّى عَلَيْهِ فَإِذَا أَذِنَ لَهُ سَيِّدُهُ جَازَ ذَلِكَ عَلَيْهِ؟
قَالَ: لِأَنَّ الْعَبْدَ لَيْسَ بِسَفيهٍ، إلَّا أَنَّ مِلْكَهُ بِيَدِ غَيْرِهِ فَإِنَّمَا مُنِعَ التِّجَارَةَ؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ بِيَدِ غَيْرِهِ، كَمَا يُمْنَعُ النِّكَاحَ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ الْأَشْيَاءِ.
فَإِذَا أَذِنَ لَهُ سَيِّدُهُ جَازَ عَلَيْهِ. وَالصَّبِيُّ لَيْسَ مِلْكُهُ بِيَدِ أَحَدٍ.
وَلَقَدْ سُئِلَ مَالِكٌ عَنْ يَتِيمٍ قَدْ بَلَغَ وَاحْتَلَمَ، لَا يَعْلَمُ مِنْهُ وَلِيُّهُ إلَّا خَيْرًا، فَأَعْطَاهُ ذَهَبًا بَعْدَ احْتِلَامِهِ لِيَخْتَبِرَهُ وَأَذِنَ لَهُ في التِّجَارَةِ لِيَخْتَبِرَهُ بِذَلِكَ أَوْ يَعْرِفَ، فَدَايَنَ النَّاسَ فَرَهِقَهُ دَيْنٌ قَالَ مَالِكٌ: لَا أَرَى أَنْ يُعْدَى عَلَيْهِ في شَيْءٍ مِنْ مَالِهِ. لَا مَا في يَدَيْهِ وَلَا مَا في غَيْرِ ذَلِكَ.
قَالَ: فَقِيلَ لِمَالِكٍ: إنَّهُ قَدْ أَمْكَنَهُ وَأَذِنَ لَهُ في التِّجَارَةِ، أَفَلَا يَكُونُ ذَلِكَ عَلَى مَا في يَدَيْهِ؟
قَالَ: لَا، لَمْ يَدْفَعْ إلَيْهِ مَالَهُ، الْمَالُ مَحْجُوبٌ عَنْهُ، وَإِنْ كَانَ دَفَعَهُ إلَيْهِ لِيَخْتَبِرَهُ فَهُوَ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ، فَالصَّبِيُّ إذَا أُذِنَ لَهُ في التِّجَارَةِ عِنْدَهُ أَضْعَفُ شَأْنًا مِنْ هَذَا.

.دَفَعَ إلَى عَبْدٍ مَحْجُورٍ عَلَيْهِ أَوْ إلَى يَتِيمٍ مَحْجُورٍ عَلَيْهِ مَالًا لِيَتَّجِرَ بِهِ:

قُلْت: أَرَأَيْتَ إنْ دَفَعْت إلَى عَبْدِ رَجُلٍ أَجْنَبِيٍّ مَحْجُورٍ عَلَيْهِ مَالًا وَأَمَرْته أَنْ يَتَّجِرَ لِي بِهِ، أَوْ إلَى يَتِيمٍ مَحْجُورٍ عَلَيْهِ فَفَعَلَ ثُمَّ لَحِقَ الْعَبْدَ دَيْنٌ، أَوْ الْيَتِيمَ أَيَكُونُ ذَلِكَ في ذِمَّتِهِمَا؟
قَالَ: قَالَ مَالِكٌ: إنَّهُ لَا يَكُونُ ذَلِكَ في ذِمَّتِهِمَا.
قُلْت: وَيَكُونُ ذَلِكَ في الْمَالِ الَّذِي دَفَعْتُ إلَيْهِمَا؟
قَالَ: نَعَمْ، يَكُونُ ذَلِكَ في الْمَالِ الَّذِي دُفِعَ إلَيْهِمَا يَتَّجِرَانِ بِهِ وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا في ذَلِكَ الْمَالِ.
فَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ الْمَالِ فَهُوَ بَاطِلٌ، لَا يَكُونُ في ذِمَّتِهِمَا، وَلَا في مَالِ مَنْ دَفَعَ إلَيْهِمَا الْمَالَ، وَلَا ذِمَّةِ مَنْ دَفَعَ إلَيْهِمَا الْمَالَ وَأَمَرَهُمَا أَنْ يَتَّجِرَا بِهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَالًا لِلْيَتِيمِ دَفَعَهُ إلَيْهِ وَصِيُّهُ لِيَخْتَبِرَهُ بِهِ، فَرَهِقَهُ دَيْنٌ، فَلَا يَكُونُ عَلَى الْيَتِيمِ مِمَّا في يَدَيْهِ مِمَّا دُفِعَ إلَيْهِ لَيُخْتَبَرَ بِهِ، وَلَا فيمَا في يَدَيْ وَصِيِّهِ مِنْ ذَلِكَ الدَّيْنِ قَلِيلٌ وَلَا كَثِيرٌ.
قَالَ: فَقُلْت لِمَالِكٍ: إنَّهُ قَدْ دَفَعَهُ إلَيْهِ لِيَخْتَبِرَهُ وَلِيَتَّجِرَ بِهِ.
قَالَ: لَمْ يُؤْمَنْ عَلَى مَالِهِ وَهُوَ مُوَلًّى عَلَيْهِ، فَلَا أَرَى ذَلِكَ يَلْزَمُهُ، لَا فيمَا في يَدَيْهِ مِمَّا اخْتَبَرَهُ بِهِ، وَلَا في مَالِهِ الَّذِي في يَدَيْ وَصِيِّهِ وَلَا في ذِمَّتِهِ.
قَالَ: وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ.

.في الْحَجْرِ عَلَى الْمُوَلَّى عَلَيْهِ:

قُلْت: أَرَأَيْتَ الَّذِي يُحْجَرُ عَلَيْهِ مِنْ الْأَحْرَارِ مِمَّنْ لَا يُحْجَرُ عَلَيْهِ، مَنْ هُمْ؟ صِفْهُمْ لِي؟
قَالَ: هُمْ الَّذِينَ لَا يُحْرِزُونَ أَمْوَالَهُمْ، وَيُبَذِّرُونَهَا في الْفِسْقِ وَالشَّرَابِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ السَّرَفِ، قَدْ عُرِفَ ذَلِكَ مِنْهُمْ، فَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُحْجَرُ عَلَيْهِمْ.
وَأَمَّا مَنْ كَانَ يُحْرِزُ وَهُوَ خَبِيثٌ فَاسِقٌ إلَّا أَنَّهُ لَيْسَ بِسَفيهٍ في تَدْبِيرِ مَالِهِ فَإِنَّ هَذَا لَا يُحْجَرُ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ عِنْدَ وَصِيِّ أَبِيهِ أَخَذَهُ مِنْهُ.
قَالَ سَحْنُونٌ: وَقَدْ كَتَبْنَا آثَارَ هَذَا وَقَوْلَ رَبِيعَةَ فيهِ.
قُلْت: هَلْ يُحْجَرُ عَلَى السَّفيهِ في مَالِهِ في قَوْلِ مَالِكٍ؟
قَالَ: نَعَمْ.
قُلْت: وَإِنْ كَانَ شَيْخًا كَبِيرًا؟
قَالَ: نَعَمْ.
قُلْت: فَإِنْ أَعْتَقَ هَذَا السَّفيهُ، أَيَجُوزُ عِتْقَهُ في قَوْلِ مَالِكٍ؟
قَالَ: قَالَ مَالِكٌ: لَا يَجُوزُ عِتْقُهُ إلَّا في أُمِّ وَلَدِهِ وَحْدَهَا.
قُلْت: لِمَ جَوَّزَ مَالِكٌ عِتْقَ أُمِّ وَلَدِهِ وَحْدَهَا؟
قَالَ: لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِمَالٍ لَهُ.
قُلْت: أَفيجُوزُ بَيْعُهُ وَشِرَاؤُهُ؟
قَالَ: قَالَ مَالِكٌ: لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ وَلَا شِرَاؤُهُ.
وَحَدَّثَنَا سَحْنُونٌ عَنْ أَنَسِ بْنِ عِيَاضٍ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ يَزِيدَ بْنِ هُرْمُزَ، أَنَّ نَجْدَةَ كَتَبَ إلَى ابْنِ عَبَّاسٍ يَسْأَلُهُ عَنْ خَمْسِ خِلَالٍ، فَكَتَبَ إلَيْهِ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَتَبْتَ تَسْأَلُنِي مَتَى يَنْقَضِي يُتْمُ الْيَتِيمِ؟ وَلَعَمْرِي إنَّ الرَّجُلَ لَتَنْبُتَ لِحْيَتُهُ وَإِنَّهُ لَضَعِيفُ الْأَخْذِ لِنَفْسِهِ، ضَعِيفُ الْإِعْطَاءِ مِنْهَا.
فَإِنْ أَخَذَ لِنَفْسِهِ مِنْ صَالِحِ مَا يَأْخُذُ النَّاسُ، فَقَدْ انْقَطَعَ عَنْهُ الْيُتْمُ.
قَالَ: وَأَخْبَرَنِي ابْنُ وَهْبٍ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: كَتَبَ نَجْدَةُ إلَى ابْنِ عَبَّاسٍ يَسْأَلُهُ عَنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَوْلَا أَنْ أَرُدَّهُ عَنْ شَيْءٍ يَقَعُ فيهِ، مَا كَتَبْتُ إلَيْهِ وَلَا نِعْمَةَ عَيْنٍ.
وَكَتَبْتَ تَسْأَلُنِي مَتَى يَنْقَضِي يُتْمُ الْيَتِيمِ؟ فَإِذَا بَلَغَ النِّكَاحَ وَأُونِسَ مِنْهُ الرُّشْدُ وَدُفِعَ إلَيْهِ مَالُهُ فَقَدْ انْقَضَى يُتْمُهُ.
قُلْت: أَرَأَيْتَ صَاحِبَ الشَّرْطِ وَمَا أَشْبَهَهُ، أَيَجُوزُ حَجْرُهُ؟
قَالَ: الَّذِي سَمِعْنَا مِنْ مَالِكٍ: أَنَّ الْقَاضِيَ هُوَ الَّذِي يُجَوِّزُ حَجْرَهُ.
قُلْت: فَرَأْيُكَ؟
قَالَ: الْقَاضِي أَحَبُّ إلَيَّ.
قُلْت: فيجُوزُ حَجْرُ الرَّجُلِ عَلَى وَلَدِهِ وَوَلَدُهُ رَجُلٌ.
قَالَ: قَالَ مَالِكٌ: مَنْ أَرَادَ أَنْ يَحْجُرَ عَلَى وَلَدِهِ، فَلْيَأْتِ بِهِ إلَى السُّلْطَانِ حَتَّى يُوقِفَهُ السُّلْطَانُ، وَيَدُورَ بِهِ في الْأَسْوَاقِ وَالْمَوَاضِعِ وَالْمَسَاجِدِ.
قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: وَسَمِعْتُ مَالِكًا يَقُولُ في الرَّجُلِ يُرِيدُ أَنْ يَحْجُرَ عَلَى وَلَدِهِ.
قَالَ: لَا يَحْجُرُ عَلَيْهِ إلَّا عِنْدَ السُّلْطَانِ فيكُونُ السُّلْطَانُ الَّذِي يُوقِفُهُ لِلنَّاسِ، أَوْ يَسْعَى بِهِ في مَجْلِسِهِ وَيُشْهِدُ عَلَى ذَلِكَ، فَمَنْ بَايَعَهُ أَوْ ابْتَاعَ مِنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ مَرْدُودٌ.

.دَفَعَ إلَى رَجُلٍ مَالًا فَقَالَ الْمَدْفُوعُ إلَيْهِ كَانَتْ سَلَفًا وَقَالَ الدَّافِعُ بَلْ أَسْلَفْتُهَا إيَّاكَ:

قُلْت: أَرَأَيْتَ لَوْ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِرَجُلٍ: ادْفَعْ إلَى فُلَانٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ عَنِّي أَوْ لَمْ يَقُلْ عَنِّي فَدَفَعَهَا كَمَا أَمَرَهُ، ثُمَّ جَاءَ يَطْلُبُهُ بِهَا فَقَالَ الْآمِرُ: كَانَتْ لِي عَلَيْكَ دَيْنًا، وَقَالَ الْمَأْمُورُ: لَمْ يَكُنْ لَكَ عَلَيَّ شَيْءٌ، وَلَكِنِّي دَفَعْتهَا سَلَفًا عَنْكَ؟
قَالَ: الْقَوْلُ قَوْلُ الْمَأْمُورِ.
قُلْت: أَتَحْفَظُهُ عَنْ مَالِكٍ؟
قَالَ: هَذَا رَأْيِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
تَمَّ كِتَابِ الْمِدْيَانِ مِنْ الْمُدَوَّنَةِ الْكُبْرَى وَيَلِيهِ كِتَابُ التَّفْلِيسِ.

.كِتَابُ التَّفْلِيسِ:

.في الرَّجُلِ يَقُومُ عَلَيْهِ بَعْضُ غُرَمَائِهِ بِتَفْلِيسِهِ:

قُلْت لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ: أَرَأَيْتَ إنْ كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلٍ مَالٌ، فَقَامَ عَلَيْهِ فَأَرَادَ أَنْ يُفَلِّسَهُ؟
قَالَ: ذَلِكَ لَهُ عِنْدَ مَالِكٍ.
قُلْت: فَإِنْ قَالَ الَّذِي عَلَيْهِ الدَّيْنُ: إنَّ عَلَيَّ أَمْوَالًا لِقَوْمٍ غُيَّبٍ؟
قَالَ: لَا يُصَدَّقُ إذَا لَمْ يَكُنْ أَقَرَّ بِذَلِكَ قَبْلَ التَّفْلِيسِ، فَإِنْ كَانَ أَقَرَّ بِذَلِكَ بَعْدَ التَّفْلِيسِ لَمْ يُصَدَّقْ إلَّا بِبَيِّنَةٍ، فَإِنْ قَامَتْ لَهُ الْبَيِّنَةُ بِمَا قَالَ عُزِلَ حَظُّ الْغُيَّبِ مِنْ مَالِهِ، وَلَمْ يَأْخُذْ هَذَا الْحَاضِرُ مِنْ مَالِ هَذَا الْغَرِيمِ، إلَّا قَدْرَ الْمُحَاصَّةِ أَوْ يَكُونُ قَدْ أَقَرَّ لَهُ قَبْلَ التَّفْلِيسِ فيلْزَمُهُ ذَلِكَ وَيُحَاصُّ بِهِ الْمُقِرُّ لَهُ.
قَالَ: وَسَأَلْتُ مَالِكًا عَنْ الرَّجُلِ يُفْلِسُ، فيقُومُ عَلَيْهِ غُرَمَاؤُهُ فَتُبَاع أَمْوَالُهُ، ثُمَّ يَقْتَسِمُونَ بِالْحِصَصِ، ثُمَّ يَأْتِي غَرِيمٌ لَمْ يُحَاصُّهُمْ، كَيْفَ يَرْجِعُ عَلَيْهِمْ؟
قَالَ: يَرْجِعُ عَلَيْهِمْ بِقَدْرِ حَقِّهِ، وَمَنْ وَجَدَ مِنْهُمْ غَنِيًّا أَخَذَ مِنْهُمْ بِقَدْرِ ذَلِكَ، وَمَنْ وَجَدَ مِنْهُمْ عَدِيمًا وَلَا شَيْءَ عِنْدَهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ هَذَا الْغَنِيِّ إلَّا مَا أَخَذَ مِنْهُ مِمَّا يُصِيبُهُ وَاتَّبَعَ هَذَا الْمُفْلِسَ في ذِمَّتِهِ، وَالْمَوْتُ وَالتَّفْلِيسُ في هَذَا بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ.
قُلْت: وَالْوَاحِدُ إذَا قَامَ بِالتَّفْلِيسِ كَانَ ذَلِكَ لَهُ؟
قَالَ: لَمْ أَسْمَعْ مَالِكًا يَقُولُ في الرَّجُلِ الْوَاحِدِ إذَا قَامَ أَنَّهُ يُفْلِسُ لَهُ، وَلَكِنَّ الرَّجُلَ الْوَاحِدَ عِنْدِي وَالْجَمَاعَةَ بِمَنْزِلَةٍ سَوَاءٍ، أَنَّهُ يُفْلِسُ لَهُ.
ابْنُ وَهْبٍ: وَقَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، في الَّذِي يَغِيبُ في بَعْضِ الْمَخَارِجِ فيهْلَكُ، فيأْتِي رَجُلٌ بِذِكْرِ حَقٍّ عَلَى الْمَيِّتِ، فيرِيدُ أَخْذَهُ وَيَقُولُ الْوَرَثَةُ: نَخْشَى أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ دَيْنٌ سِوَى هَذَا.
قَالَ: إنْ كَانَ الْمَيِّتُ رَجُلًا لَيْسَ مَعْرُوفًا بِالدَّيْنِ، قَضَى هَذَا حَقَّهُ وَلَمْ يَنْتَظِرْ بِهِ.
وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يُعَدُّ مِدْيَانًا في ظَاهِرِ مَعْرِفَةِ النَّاسِ، وَيُخَافُ كَثْرَةُ دَيْنِهِ، لَمْ يُعَجِّلْ بِقَضَاءِ هَذَا حَتَّى يُسْتَبْرَأَ أَمْرُهُ.
قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَغَيْرُهُ مِنْ الرُّوَاةِ: إذَا قَامَ بِهِ رَجُلٌ، أُوقِفَ وَضُرِبَ عَلَى يَدَيْهِ وَاسْتَقْصَى أَمْرَهُ، ثُمَّ يُبَاعُ لَهُ مَالُهُ، وَهُوَ وَالْمَيِّتُ سَوَاءٌ إذَا كَانَ مَعْرُوفًا بِالدَّيْنِ لَمْ يُعَجَّلْ بِقَضَاءِ مَنْ حَضَرَ، وَأُوقِفَ حَتَّى يُسْتَبْرَأَ أَمْرُهُ، وَيَجْتَمِعَ أَهْلُ دَيْنِهِ، أَوْ يُعْرَفُوا فيضْرَبُ لَهُمْ بِحُقُوقِهِمْ، فَهَذَا أَعْدَلُ رِوَايَتِهِمْ عَنْ مَالِكٍ.
قُلْت لِابْنِ الْقَاسِمِ: أَرَأَيْتَ إنْ كَانَ مَعَهُ في الْمِصْرِ غُرَمَاءُ لَهُ، فَفَلَّسَ هَذَا الْمِدْيَانَ بَعْضُ غُرَمَائِهِ وَلَمْ يَقُمْ عَلَيْهِ مَنْ بَقِيَ مَنْ الْغُرَمَاءِ، وَهُمْ في الْمِصْرِ قَدْ عَلِمُوا بِهِ حِينَ فُلِّسَ، فَقَامُوا بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى الَّذِينَ اقْتَضَوْا حُقُوقَهُمْ، أَيَكُونُ لَهُمْ أَنْ يَتْبَعُوهُمْ فيحَاصُّوهُمْ في قَوْلِ مَالِكٍ؟
قَالَ: مَا سَمِعْتُ مِنْ مَالِكٍ فيهِ شَيْئًا وَلَكِنَّ مَالِكًا قَالَ في الرَّجُلِ يَعْتِقُ عَبْدَهُ، وَعَلَيْهِ دَيْنٌ يَغْتَرِقُ مَالَهُ، فَلَا يَقُومُ عَلَيْهِ الْغُرَمَاءُ إلَّا بَعْدَ ذَلِكَ وَقَدْ عَلِمُوا بِالْعِتْقِ، فَلَمْ يَقُومُوا عَلَيْهِ حِينَ أَعْتَقَ، فَإِنَّهُ لَا يَرُدُّ لَهُمْ الْعِتْقَ بَعْدَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمْ تَرَكُوا الْقِيَامَ عَلَيْهِ حِينَ أَعْتَقَ عَبْدَهُ وَقَدْ عَلِمُوا بِذَلِكَ، وَكَذَلِكَ مَسْأَلَتُكَ؛ لِأَنَّهُمْ حِينَ تَرَكُوا أَنْ يَقُومُوا عَلَيْهِ عِنْدَمَا فُلِّسَ وَهُمْ حُضُورٌ، وَقَدْ عَلِمُوا بِالتَّفْلِيسِ، فَقَدْ رَضُوا أَنْ يَكُونَ حَقُّهُمْ في ذِمَّةِ الْغَرِيمِ في الْمُسْتَقْبَلِ، وَرَضُوا أَنْ يَتْرُكُوا الْمُحَاصَّةَ مَعَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَخَذُوا الْمَالَ.
قَالَ سَحْنُونٌ: وَقَدْ قِيلَ إنَّهُ يُوَقِّفُ لَهُمْ حُقُوقَهُمْ؛ لِأَنَّهُ قَدْ ضُرِبَ عَلَى يَدَيْهِ وَوُقِّفَ لِيُقَسَّمَ مَالُهُ، وَالْحَاضِرُ وَالْغَائِبُ سَوَاءٌ، إلَّا أَنْ يَتَبَيَّنَ مِنْ الْحَاضِرِ أَنَّهُ تَارِكٌ لِحَقِّهِ في ذِمَّةِ الْغَرِيمِ، وَرَاضٍ بِاقْتِضَاءِ هَؤُلَاءِ حُقُوقَهُمْ.

.في الْمُفْلِسِ يُقِرُّ بِالدَّيْنِ لِرَجُلٍ:

قُلْت: أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ عَلَى رَجُلٍ دَيْنٌ في الصِّحَّةِ، بِبَيِّنَةٍ أَوْ بِإِقْرَارٍ مِنْهُ، ثُمَّ أَقَرَّ في مَرَضِهِ بِدَيْنٍ لِوَارِثٍ أَوْ لِغَيْرِ وَارِثٍ، أَيَتَحَاصُّونَ في مَالِهِ؟
قَالَ: إنْ أَقَرَّ في مَرَضِهِ بِدَيْنٍ لِوَارِثٍ، أَوْ لِذِي قَرَابَةٍ أَوْ لِصَدِيقٍ مُلَاطِفٍ، لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ، وَإِنْ كَانَ إنَّمَا أَقَرَّ في مَرَضِهِ لِأَجْنَبِيٍّ مِنْ النَّاسِ، فَإِنَّهُ يُحَاصُّ الْغُرَمَاءَ الَّذِينَ دُيُونُهُمْ بِبَيِّنَةٍ وَاَلَّذِينَ أَقَرَّ لَهُمْ في الصِّحَّةِ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ.
وَلَوْ فُلِّسَ، وَلِقَوْمٍ عَلَيْهِ حَقٌّ بِبَيِّنَةٍ ثُمَّ أَقَرَّ بَعْدَ التَّفْلِيسِ بِدَيْنٍ لَمْ يُقْبَلْ إقْرَارُهُ إلَّا أَنْ تَكُونَ لَهُمْ بَيِّنَةٌ، وَلَوْ أَقَرَّ لِقَوْمٍ قَبْلَ التَّفْلِيسِ تَحَاصَّ الَّذِينَ لَهُمْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ بِبَيِّنَةٍ.
قُلْت: أَرَأَيْتَ إنْ قَامَ عَلَيْهِ الْغُرَمَاءُ فَفَلَّسُوهُ، فَأَقَرَّ لِرَجُلٍ بِمِائَةِ دِينَارٍ وَلَا يُعْلَمُ ذَلِكَ إلَّا بِقَوْلِهِ.
قَالَ: إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ، أَوْ يَكُونُ إقْرَارُهُ هَذَا قَبْلَ التَّفْلِيسِ، فَلَا شَيْءَ لِلَّذِي أَقَرَّ لَهُ بِالدَّيْنِ إلَّا أَنْ تَكُونَ لَهُ بَيِّنَةٌ.
قُلْت: وَيَتَحَاصُّ أَهْلُ الدَّيْنِ في مَالِهِ هَذَا دُونَ الْمُقَرِّ لَهُ؟
قَالَ: نَعَمْ.
قُلْت وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ؟
قَالَ: نَعَمْ.
قُلْت لِابْنِ الْقَاسِمِ: فَإِنْ أَفَادَ بَعْدَ ذَلِكَ مَالًا وَقَدْ بَقِيَ لِأَهْلِ الدُّيُونِ بَقِيَّةٌ مِنْ دَيْنِهِمْ أَيَضْرِبُ الْمُقَرُّ لَهُ مَعَهُمْ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ هَهُنَا مَوْضِعُ تُهْمَةٍ، إنَّمَا كَانَتْ التُّهْمَةُ في الْمَالِ الْأَوَّلِ؟
قُلْت: فَإِنْ أَفَادَ مَالًا بَعْدَمَا فَلَّسُوهُ، فَلَمْ يَقُمْ الْغُرَمَاءُ وَلَا هَذَا الْمُقَرُّ لَهُ عَلَى مَا أَفَادَ مِنْ الْمَالِ، حَتَّى أَقَرَّ لِرَجُلٍ آخَرَ بِدَيْنٍ، أَيَجُوزُ إقْرَارُهُ لَهُ بِالدَّيْنِ أَمْ لَا؟
قَالَ: لَمْ أَسْمَعْ مِنْ مَالِكٍ فيهِ شَيْئًا، وَأَرَى إقْرَارَهُ لِهَذَا بِالدَّيْنِ بَعْدَ التَّفْلِيسِ جَائِزًا، إذَا أَقَرَّ قَبْلَ أَنْ يَقُومَ الْغُرَمَاءُ الْأَوَّلُونَ الَّذِينَ لَهُمْ الدَّيْنُ بِبَيِّنَةٍ، وَاَلَّذِينَ أَقَرَّ لَهُمْ الْمُفْلِسُ أَوَّلًا عَلَى مَا في يَدَيْهِ فيفَلِّسُونَهُ ثَانِيَةً، فَأَرَى أَنَّ هَذَا الْآخَرَ الَّذِي أَقَرَّ لَهُ بَعْدَ التَّفْلِيسِ، أَوْلَى بِمَا في يَدَيْهِ مِنْ الْغُرَمَاءِ الْأَوَّلِينَ؛ لِأَنَّ مَا في يَدَيْهِ مَالٌ حَادِثٌ.
قَالَ سَحْنُونٌ: وَذَلِكَ إذَا كَانَ قَدْ عُومِلَ بَعْدَ التَّفْلِيسِ الْأَوَّلِ وَبَاعَ وَاشْتَرَى وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ في الْمُفْلِسِ إذَا دَايَنَ النَّاسَ بَعْدَ التَّفْلِيسِ، ثُمَّ فُلِّسَ ثَانِيَةً فَاَلَّذِينَ دَايَنُوهُ بَعْدَ التَّفْلِيسِ أَوْلَى بِمَا في يَدَيْهِ مِنْ الْغُرَمَاءِ الْأَوَّلِينَ؛ لِأَنَّ هَذَا مَالُهُمْ.
فَإِقْرَارُهُ فيمَا أَفَادَ بَعْدَمَا فُلِّسَ بِدَيْنٍ فَذَلِكَ جَائِزٌ عَلَيْهِ، بِمَنْزِلَةِ مَا يَثْبُتُ بِالْبَيِّنَةِ، وَإِنْ كَانَ مَا أَفَادَ مِنْ الْمَالِ بَعْدَ التَّفْلِيسِ، مِنْ صِلَةٍ أَوْ مِيرَاثٍ أَوْ جِنَايَةٍ جُنِيَتْ عَلَيْهِ، ضَرَبَ أَهْلُ التَّفْلِيسِ الْأَوَّلِ بِمَا بَقِيَ لَهُمْ، وَمَنْ أَقَرَّ لَهُمْ في الْمَالِ الْمُفَادِ.
قُلْت: فَلِمَ أَجَزْتَ إقْرَارَهُ وَأَنْتَ لَا تُجِيزُ هِبَتَهُ وَلَا صَدَقَتَهُ؟
قَالَ: أَلَا تَرَى أَنَّ الرَّجُلَ الْمِدْيَانَ مَا لَمْ يُفَلَّسْ، لَوْ تَصَدَّقَ أَوْ وَهَبَ أَوْ أَعْتَقَ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ في قَوْلِ مَالِكٍ؟ وَإِنْ أَقَرَّ لِرَجُلٍ بِدَيْنٍ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ بِبَيِّنَةٍ، فَإِقْرَارُهُ جَائِزٌ.
وَكَذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ فيمَا أَقَرَّ بِهِ قَبْلَ التَّفْلِيسِ مَا لَمْ يُفَلَّسْ.
فَكَذَلِكَ إذَا فُلِّسَ، ثُمَّ أَقَرَّ بِدَيْنٍ لِرَجُلٍ بَعْدَ التَّفْلِيسِ قَبْلَ أَنْ يُفَلَّسَ الثَّانِيَةَ فَإِقْرَارُهُ جَائِزٌ، بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ كَانَ بِبَيِّنَةٍ.
وَلَا تَجُوزُ صَدَقَتُهُ وَلَا هِبَتُهُ وَلَا عِتْقُهُ وَهُوَ بِحَالِ مَا وَصَفْتُ لَكَ مِنْ الرَّجُلِ الْمِدْيَانِ إذَا كَانَ لَا وَفَاءَ لَهُ.
قُلْت: أَرَأَيْتَ إذَا سَجَنَهُ السُّلْطَانُ فَأَقَرَّ في السِّجْنِ بِدَيْنٍ لِرَجُلٍ، أَيَجُوزُ إقْرَارُهُ في قَوْلِ مَالِكٍ؟
قَالَ: إذَا صَنَعَ بِهِ غُرَمَاؤُهُ هَذَا، وَرَفَعُوهُ إلَى السُّلْطَانِ وَقَامُوا عَلَيْهِ حَتَّى سَجَنُوهُ، فَهَذَا وَجْهُ التَّفْلِيسِ، وَلَا يَجُوزُ إقْرَارُهُ بِالدَّيْنِ؛ لِأَنَّ مَالِكًا قَالَ: إذَا فُلِّسَ فَلَا يَجُوزُ إقْرَارُهُ بِالدَّيْنِ.
قَالَ: وَكَذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ: إذَا قَامَ غُرَمَاؤُهُ عَلَيْهِ عَلَى وَجْهِ التَّفْلِيسِ، فَلَا يَجُوزُ إقْرَارُهُ بِالدَّيْنِ، إلَّا أَنْ تَقُومَ بَيِّنَةٌ لِمَنْ أَقَرَّ لَهُ بِالدَّيْنِ.
قُلْت: وَيَبِيعُ السُّلْطَانُ مَا ظَهَرَ لَهُ مِنْ مَالٍ إذَا رُفِعَ إلَيْهِ أَمْرُهُ، فَتَتَوَزَّعُ الْغُرَمَاءُ فيمَا بَيْنَهُمْ بِالْحِصَصِ، وَيَسْجُنُهُ في الَّذِي بَقِيَ عَلَيْهِ مِنْ أَمْوَالِهِمْ، إذَا عَرَفَ مِنْهُ وَجْهَ الْإِلْدَادِ الَّذِي وَصَفْتَ لِي في قَوْلِ مَالِكٍ؟
قَالَ: نَعَمْ.
قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: وَأَخْبَرَنِي إسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ قَالَ: كَانَ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ يَقُولُ في الْحُرِّ يُفْلِسُ: إنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ بَيْعٌ وَلَا عَتَاقَةٌ وَلَا صَدَقَةٌ وَلَا اعْتِرَافٌ بِدَيْنٍ وَلَا بِشَيْءٍ يَفْعَلُهُ.
وَقَالَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ مِثْلَهُ.
قَالَ إسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ: كَانَ شُرَيْحٌ يَقْضِي بِهِ.
وَقَالَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ: وَإِنْ قَضَى بَعْضَ غُرَمَائِهِ وَتَرَكَ بَعْضًا جَازَ لَهُ، وَإِنْ رَهَنَ رَهْنًا جَازَ لَهُ ذَلِكَ مَا لَمْ يَقُمْ بِهِ غُرَمَاؤُهُ.
وَكَانَ ابْنُ أَبِي سَلَمَةَ يَقُولُ بِقَوْلِ مَالِكٍ الْأَوَّلِ، وَقَوْلُ مَالِكٍ الْأَوَّلُ إذَا تَبَيَّنَ فَلَسُهُ وَلَمْ يَقُمْ بِهِ غُرَمَاؤُهُ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْضِيَ بَعْضَ غُرَمَائِهِ وَلَا يَرْهَنَهُ.

.في الرَّجُلِ يُفْلِسُ وَبَعْضُ غُرَمَائِهِ غُيَّبٌ:

قُلْت: أَرَأَيْتَ إذَا فُلِّسَ الرَّجُلُ وَلِقَوْمٍ غُيَّبٍ عَلَيْهِ دَيْنٌ أَيَعْزِلُ الْقَاضِي أَنْصِبَاءَهُمْ أَمْ لَا في قَوْلِ مَالِكٍ؟
قَالَ: نَعَمْ، يَعْزِلُ الْقَاضِي أَنْصِبَاءَهُمْ عِنْدَ مَالِكٍ.
قُلْت: فَإِنْ ضَاعَ أَنْصِبَاءُ الْغُيَّبِ بَعْدَمَا عَزَلَهَا الْقَاضِي لَهُمْ، كَانَ ضَيَاعُهَا مِنْهُمْ؟
قَالَ: قَالَ مَالِكٌ: نَعَمْ.
قَالَ: وَقَالَ مَالِكٌ: وَلَوْ كَانَ لَهُ غَرِيمٌ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ، ثُمَّ قَدِمَ، رَجَعَ عَلَيْهِمْ جَمِيعًا بِقَدْرِ حِصَّتِهِ، فَأَخَذَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِقَدْرِ الَّذِي أَخَذَ مِنْ نَصِيبِهِ الَّذِي يَصِيرُ لَهُ في الْمُحَاصَّةِ.
وَتَفْسِيرُ ذَلِكَ: لَوْ أَنَّ رَجُلًا أَفْلَسَهُ رَجُلَانِ، لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَيْهِ مِائَةُ دِرْهَمٍ، وَلِرَجُلٍ غَائِبٍ عَلَيْهِ مِائَةُ دِرْهَمٍ أَيْضًا، وَلَمْ يُعْلَمْ بِالْغَائِبِ.
فَفَلَّسُوا هَذَا الْغَرِيمَ، فَلَمْ يَجِدُوا لَهُ إلَّا مِائَةَ دِرْهَمٍ، فَقُسِّمَتْ الْمِائَةُ بَيْنَ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ، فَأَخَذَ هَذَا خَمْسِينَ وَهَذَا خَمْسِينَ، ثُمَّ قَدِمَ الْغَائِبُ وَأَثْبَتَ دَيْنَهُ، فَإِنَّهُ يَصِيرُ لَهُ في الْمُحَاصَّةِ مِنْ الْمِائَةِ ثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ وَثُلُثُ دِرْهَمٍ، وَقَدْ أَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خَمْسِينَ، فَقَدْ أَخَذَ صَاحِبَاهُ فَضْلًا عَلَى حَقِّهِ سَبْعَةَ عَشَرَ إلَّا ثُلُثَ دِرْهَمٍ، فيصِيرُ لَهُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ سَبْعَةَ عَشَرَ إلَّا ثُلُثَ دِرْهَمٍ.
فيقَالُ لَهُمَا: ادْفَعَا إلَيْهِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمَا سَبْعَةَ عَشَرَ دِرْهَمًا إلَّا ثُلُثَ دِرْهَمٍ مَا اسْتَفْضَلْتُمَاهُ بِهِ، وَهُوَ مِقْدَارُ حِصَّتِهِ في الْمُحَاصَّةِ.
فَإِنْ أَصَابَ أَحَدُهُمَا عَدِيمًا، لَمْ يَكُنْ لَهُ قَبْلَ هَذَا الَّذِي أَصَابَ مَلِيًّا، إلَّا سَبْعَةَ عَشَرَ دِرْهَمًا غَيْرَ ثُلُثٍ؛ لِأَنَّ بَقِيَّةَ حَقِّهِ إنَّمَا أَتْلَفَهُ الْآخَرُ، وَيَكُونُ ذَلِكَ دَيْنًا عَلَى الَّذِي أَتْلَفَهُ يَتْبَعُهُ بِهِ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ.
وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ في الرَّجُلِ يَمْرَضُ فيقِرُّ في مَرَضِهِ بِدَيْنٍ لِأَجْنَبِيٍّ، وَبِدَيْنٍ لِابْنٍ لَهُ، وَقَدْ تَرَكَ بَنِينَ سِوَاهُ وَتَرَكَ مِائَةَ دِينَارٍ، فَأَقَرَّ أَنَّ لِلْأَجْنَبِيِّ عَلَيْهِ مِائَةَ دِينَارٍ، وَلِابْنِهِ عَلَيْهِ مِائَةَ دِينَارٍ، وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرُ الْمِائَةِ.
قَالَ: الِابْنُ وَالْأَجْنَبِيُّ يَتَحَاصَّانِ في الْمِائَةِ الدِّينَارِ، فَمَا صَارَ لِلْأَجْنَبِيِّ أَخَذَهُ، وَمَا صَارَ لِلْوَارِثِ، فَإِنْ أَجَازَهُ لَهُ الْوَرَثَةُ كَانَ أَوْلَى بِهِ، وَإِلَّا كَانَ مِيرَاثًا بَيْنَهُمْ.
وَإِنَّمَا يُحَاصُّ الْوَارِثُ الْأَجْنَبِيَّ مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ لَا تُهْمَةَ في إقْرَارِهِ لِلْوَارِثِ حِينَ لَمْ يَتْرُكْ إلَّا الْمِائَةَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ شَاءَ أَنْ لَا يُقِرَّ لِلْأَجْنَبِيِّ لَفَعَلَ، فَلَيْسَ لِلْأَجْنَبِيِّ هَهُنَا حُجَّةٌ عَلَى الْمَيِّتِ أَنْ يَقُولَ: أُقِرُّ عَنِّي بِالْمِائَةِ، وَإِنَّمَا الْحُجَّةُ لَهُ أَنْ لَوْ كَانَ دَيْنُهُ بِبَيِّنَةٍ، فَأَدْخَلَ عَلَيْهِ مَنْ يُتَّهَمُ عَلَيْهِ، فيكُونُ لَهُ حِينَئِذٍ حُجَّةٌ وَهُوَ الَّذِي سَمِعْتُ مِنْ قَوْلِ مَالِكٍ.

.في الْمُفْلِسِ يُرِيدُ بَعْضُ غُرَمَائِهِ حَبْسَهُ وَتَفْلِيسَهُ وَيَأْبَى بَعْضُهُمْ:

قُلْت: أَرَأَيْتَ إنْ قَالَ بَعْضُهُمْ: نَحْنُ نَسْجُنُهُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: نَحْنُ لَا نَسْجُنُهُ، وَلَكِنَّا نَحْبِسُهُ بِطَلَبِ الْفَضْلِ حَتَّى يَقْضِيَنَا حُقُوقَنَا؟
قَالَ: إذَا تَبَيَّنَ الْإِلْدَادُ لِلسُّلْطَانِ، وَطَلَبَ وَاحِدٌ مِنْ الْغُرَمَاءِ أَنْ يَحْبِسَهُ لَهُ سَجْنُهُ، فَإِنْ شَاءَ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِيدُوا أَنْ يَحْبِسُوهُ، أَنْ يَقُومُوا عَلَى حُقُوقِهِمْ فيحَاصُّوا هَذَا الْغَرِيمَ الَّذِي حَبَسَهُ في مَالِ الْمَحْبُوسِ الْمَطْلُوبِ فَذَلِكَ لَهُمْ، وَإِنْ شَاءُوا أَخَذُوهُ، وَإِنْ شَاءُوا أَقَرُّوهُ في يَدَيْ الْمَطْلُوبِ، وَلَا يَكُونُ لِلْغَرِيمِ الَّذِي سَجَنَهُ وَأَخَذَ حَقَّهُ أَنْ يَأْخُذَ هَذَا الَّذِي رَدَّهُ أَصْحَابُهُ في يَدِ الْمَطْلُوبِ وَأَقَرُّوهُ، إلَّا أَنْ يُفيدَ مَالًا غَيْرَهُ، أَوْ يَكُونُ فيهِ رِبْحٌ فيأْخُذُ حَقَّهُ مِنْ ذَلِكَ وَيَكُونُ هُوَ وَهُمْ في ذَلِكَ الْمَالِ الَّذِي يُفيدُهُ أُسْوَةً فيمَا بَقِيَ مِنْ دَيْنِهِمْ.
قُلْت: وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ كُلُّهُ؟
قَالَ: هُوَ قَوْلُهُ لِي إلَّا قَوْلِي لَكَ: أَوْ يَرْبَحُ فيمَا أُقِرَّ في يَدَيْهِ، فَإِنَّهُ رَأْيِي.
قُلْت: أَرَأَيْتَ الَّذِي ذَكَرْتَ مِنْ الْمَحْبُوسِ في الدَّيْنِ، إذَا طَلَبَهُ وَاحِدٌ مِنْ الْغُرَمَاءِ بِحَقِّهِ فَسَجَنَهُ وَقَالَ بَقِيَّةُ الْغُرَمَاءِ: نَحْنُ نُخَلِّيهِ؟
قَالَ: يُحَاصُّونَ هَذَا الْغَرِيمَ الَّذِي سَجَنَهُ إنْ أَحَبُّوا، ثُمَّ إنْ أَرَادُوا رَدُّوا مَا صَارَ لَهُمْ في الْمُحَاصَّةِ في يَدِ الْمَطْلُوبِ، فَكَانَ في يَدَيْهِ.
وَلَمْ يَكُنْ لِلْغَرِيمِ الَّذِي لَمْ يَرُدَّ إلَيْهِ مَا اقْتَضَى مِنْ حَقِّهِ مِنْ هَذَا الَّذِي رَدَّهُ هَؤُلَاءِ عَلَى الْمَطْلُوبِ شَيْءٌ إلَّا أَنْ يُفيدَ مَالًا.
قُلْت: أَرَأَيْتَ إذَا أَفَادَ مَالًا، وَاَلَّذِي رَدَّ الْغُرَمَاءُ عَلَيْهِ قَائِمٌ في يَدِهِ، فَأَرَادَ الَّذِي لَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ شَيْئًا أَنْ يَقْتَضِيَ حَقَّهُ مِمَّا أَفَادَ؟
قَالَ: يَقْتَضِي حَقَّهُ مِمَّا أَفَادَ، وَلَا يَقْتَضِي مَا رَدَّ عَلَيْهِ أَصْحَابُهُ شَيْئًا،
وَيُحَاصُّهُ أَصْحَابُهُ في الَّذِي أَفَادَهُ الْمَطْلُوبُ.
قُلْت: أَفيحْسِبُ عَلَيْهِمْ هَذَا الْغَرِيمُ الَّذِي لَمْ يَرُدَّ عَلَى الْمَطْلُوبِ مَا في يَد الْغَرِيمِ الْمَطْلُوبِ مِنْ دَيْنِهِمْ الَّذِي أَخَذُوهُ وَرَدُّوهُ إلَيْهِ، ثُمَّ يُحَاصُّهُمْ بِمَا بَقِيَ لَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ في هَذَا الَّذِي أَفَادَ هَذَا الْمَطْلُوبُ إنْ كَانَ هَذَا الَّذِي رَدُّوا قَائِمًا بِعَيْنِهِ؟
قَالَ: نَعَمْ، كَذَلِكَ هَؤُلَاءِ يُحَاسِبُونَهُ بِمَا رَدُّوا إلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ نِصْفَ حُقُوقِهِمْ وَكَانَ كَفَافًا الْيَوْمَ، لَمَا رَدُّوا إلَيْهِ ذَلِكَ الْيَوْمَ؛ لِأَنَّ رَدَّهُمْ إلَيْهِ الْمَالَ الَّذِي أَخَذُوا مِنْهُ، كَأَنَّهُ بَيْعٌ حَادِثٌ بَايَعُوهُ فينْظَرُ إلَى مَبْلَغِ الَّذِي رَدُّوا مَا هُوَ الْيَوْمَ مِنْ حُقُوقِهِمْ الَّتِي رَدُّوا، فَإِنْ كَانَ أَقَلَّ، ضَرَبُوا بِمَا نَقَصَ وَبِمَا بَقِيَ لَهُمْ قَبْلَ ذَلِكَ في هَذِهِ الْفَائِدَةِ.
سَحْنُونٌ: وَيُحَاصُّهُمْ الْأَوَّلُ الَّذِي لَمْ يَرُدَّ إلَيْهِ شَيْئًا في ذَلِكَ بِمَا بَقِيَ لَهُ مِنْ دَيْنِهِ الْأَوَّلِ، وَكَذَلِكَ لَوْ ذَهَبَ مَا رَدُّوا إلَيْهِ جَمِيعُهُ، ثُمَّ أَفَادَ مَالًا حَاصُّوا الَّذِي لَمْ يَرُدَّ إلَيْهِ شَيْئًا في هَذِهِ الْفَائِدَةِ بِجَمِيعِ دَيْنِهِمْ، وَيَضْرِبُونَ هُمْ فيهَا بِجَمِيعِ دَيْنِهِمْ مَا رَدُّوا إلَيْهِ وَمَا بَقِيَ لَهُمْ قَبْلَ ذَلِكَ، وَيَضْرِبُ فيهَا الَّذِي لَمْ يَرُدَّ إلَى الْمَطْلُوبِ شَيْئًا بِمَا بَقِيَ مِنْ جَمِيعِ دَيْنِهِ.
قُلْت: وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ؟
قَالَ: هَذَا رَأْيِي.
قَالَ: قَالَ مَالِكٌ: مَنْ أَرَادَ أَنْ يُقِرَّ حَقَّهُ في يَدِ الْمُفْلِسِ أَقَرَّهُ، وَمَنْ شَاءَ أَنْ يَأْخُذَهُ أَخَذَهُ.
قَالَ مَالِكٌ: وَلَيْسَ لِلَّذِينَ اقْتَضَوْا أَنْ يَرْجِعُوا فيمَا تَرَكَ هَؤُلَاءِ في يَدِ الْمُفْلِسِ مِمَّا حَاصُّوهُمْ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ مَا دَايَنُوهُ بَعْدَ التَّفْلِيسِ.
أَلَا تَرَى لَوْ أَنَّ مُفْلِسًا دَايَنَهُ قَوْمٌ بَعْدَ التَّفْلِيسِ، أَنَّ الَّذِينَ دَايَنُوهُ بَعْدَ التَّفْلِيسِ أَوْلَى بِمَا في يَدَيْهِ مِنْ الَّذِينَ فَلَّسُوهُ، إلَّا أَنْ يَكُونَ فيمَا في يَدَيْهِ فَضْلٌ عَنْ حُقُوقِ الَّذِينَ دَايَنُوهُ بَعْدَ التَّفْلِيسِ الْأَوَّلِ؟ فَكَذَلِكَ الَّذِينَ رَدُّوهُ إلَيْهِ حِصَصُهُمْ أَحَقُّ بِمَا في يَدَيْهِ حَتَّى يَقْبِضُوا مَا رَدُّوا إلَيْهِ، إلَّا أَنْ يَفْضُلَ فَضْلُهُ فيتَحَاصُّ فيهَا مَنْ لَمْ يَرُدَّ وَمَنْ رَدَّ بِمَا بَقِيَ لَهُمْ عِنْدَ التَّفْلِيسِ الْأَوَّلِ.
وَمِمَّا يُبَيِّنُ لَكَ ذَلِكَ، لَوْ أَنَّ مَا رَدَّ الَّذِينَ رَدُّوا عَلَى الْمُفْلِسِ نَقَصَ، ذَلِكَ بَعْدَمَا رَدُّوهُ إلَيْهِ، حَاصُّوا الْغُرَمَاءَ بِمَا نَقَصَ مِمَّا رَدُّوا بِمَا بَقِيَ لَهُمْ مِنْ حُقُوقِهِمْ في الْمُحَاصَّةِ الْأُولَى في فَائِدَةٍ، إنْ كَانَتْ مِنْ هِبَةٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ مِيرَاثٍ، وَالْهِبَةُ وَالصَّدَقَةُ وَالْجِنَايَةُ وَالْمِيرَاثُ في هَذَا بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ سَوَاءٌ.
قَالَ: وَمَا كَانَ مِنْ فَائِدَةٍ، فَاَلَّذِينَ فَلَّسُوهُ وَاَلَّذِينَ دَايَنُوهُ في ذَلِكَ أُسْوَةُ الْغُرَمَاءِ فيمَا لَهُمْ عَلَيْهِ مِنْ الدَّيْنِ.
قَالَ: وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ.
فَهَذَا أَيْضًا يَدُلُّكَ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ.
قُلْت: أَرَأَيْتَ إنْ تَجَرَ الْمُفْلِسُ في الْمَالِ الَّذِي رَدَّهُ عَلَيْهِ غُرَمَاؤُهُ وَرَبِحَ فيهِ، أَيَكُونُ هَذَا الرِّبْحُ بِمَنْزِلَةِ الْفَائِدَةِ، يَشْرَعُ فيهِ جَمِيعُ الْغُرَمَاءِ؟
قَالَ: نَعَمْ؛ لِأَنَّ مَالِكًا قَالَ: مَا دَايَنَهُ الْآخِرُونَ بَعْدَ الْأَوَّلِينَ، فَالْآخِرُونَ أَوْلَى بِهِ إلَّا أَنْ يَفْضُلَ مِنْ دَيْنِهِمْ فَضْلَةٌ، فيكُونَ الْأَوَّلُونَ وَالْآخِرُونَ يَتَحَاصُّونَ فيهِ بِقَدْرِ دُيُونِهِمْ، فَمَا أَقَرَّ هَؤُلَاءِ في يَدَيْهِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ دَايَنَهُ غَيْرُهُمْ بَعْدَ التَّفْلِيسِ، وَمَا بَقِيَ في يَدَيْهِ بَعْدَ الَّذِي أَقَرُّوا في يَدَيْهِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ فَضَلَ في يَدَيْهِ، بَعْدَ مُدَايَنَةِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ دَايَنُوهُ بَعْدَ التَّفْلِيسِ.
قُلْت: وَإِنَّمَا يُنْظَرُ إلَى مَا بَقِيَ في يَدَيْهِ فيقَيِّمُهُ قِيمَةً إنْ كَانَ عُرُوضًا، فَمَا كَانَ فيهِ مِنْ فَضْلٍ عَنْ الدَّيْنِ الَّذِي تَرَكُوا في يَدَيْهِ، فَذَلِكَ لِفَضْلِ الَّذِي يَشْرَعُ فيهِ الْغُرَمَاءُ بِمَا بَقِيَ لَهُمْ يَوْمَ فَلَّسَهُ هَؤُلَاءِ جَمِيعًا في قَوْلِ مَالِكٍ؟
قَالَ: نَعَمْ.
وَحَدَّثَنَا سَحْنُونٌ عَنْ ابْنِ وَهْبٍ عَنْ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ وَهُوَ أَحَدُ قَوْمِ بَنِي سَلَمَة كَثُرَ دَيْنُهُ في عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمْ يَزِدْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غُرَمَاءَهُ عَلَى أَنْ خَلَعَ لَهُمْ مَالَهُ.
ابْنُ وَهْبٍ عَنْ ابْنِ لَهِيعَةَ عَنْ عُمَارَةَ بْنِ غَزِيَّةَ وَيَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: مَضَتْ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ بِأَنْ خَلَعَهُ مِنْ مَالِهِ وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِبَيْعِهِ، في رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ.
ابْنُ وَهْبٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ بُكَيْرِ بْنِ الْأَشَجِّ عَنْ عِيَاضِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: أُصِيبَ رَجُلٌ في عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ثِمَارٍ ابْتَاعَهَا فَكَثُرَ دَيْنُهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَصَدَّقُوا عَلَيْهِ، فَتُصَدِّقَ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَبْلُغْ ذَلِكَ وَفَاءَ دَيْنِهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: خُذُوا مَا وَجَدْتُمْ وَلَيْسَ لَكُمْ إلَّا ذَلِكَ».
قَالَ مَالِكٌ: الْأَمْرُ عِنْدَنَا الَّذِي لَا اخْتِلَافَ فيهِ، أَنَّ الْحُرَّ إذَا أَفْلَسَ لَا يُؤَاجَرُ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلَى مَيْسَرَةٍ} [سُورَةُ الْبَقَرَة].
مَالِكٌ وَعَبْدُ اللَّهُ بْنُ عَمْرٍو عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ دِلَافٍ الْمُزَنِيِّ عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ رَجُلًا مِنْ جُهَيْنَةَ كَانَ يَسْبِقُ الْحَاجَّ فيشْتَرِي الرَّوَاحِلَ، فيغَلِّي ثُمَّ يُسْرِعُ السَّيْرَ فيسْبِقُ الْحَاجَّ، فَأَفْلَسَ.
فَرُفِعَ أَمْرُهُ إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَقَامَ عُمَرُ فَقَالَ: أَمَّا بَعْدُ أَيُّهَا النَّاسُ، فَإِنَّ الْأُسَيْفِعَ أُسَيْفِعَ جُهَيْنَةَ رَضِيَ مِنْ دَيْنِهِ وَأَمَانَتِهِ بِأَنْ يُقَالَ لَهُ سَبَقَ الْحَاجَّ.
أَلَا وَإِنَّهُ قَدْ كَانَ مُعْرِضًا فَأَصْبَحَ قَدْ دِينَ بِهِ، فَمَنْ كَانَ لَهُ عَلَيْهِ حَقٌّ فَلْيَأْتِنَا بِالْغَدَاةِ حَتَّى نُقَسِّمَ مَالَهُ بَيْنَ غُرَمَائِهِ بِالْغَدَاةِ.
ثُمَّ إيَّاكُمْ وَالدَّيْنَ فَإِنَّ أَوَّلَهُ هَمٌّ وَآخِرَهُ حَزَنٌ.
سَحْنُونٌ عَنْ ابْنِ وَهْبٍ عَنْ ابْنِ لَهِيعَةَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَضَى في رَجُلٍ غَرِقَ في دَيْنٍ، أَنْ يُقَسَّمَ مَالُهُ بَيْنَ الْغُرَمَاءِ وَيُتْرَكَ حَتَّى يَرْزُقَهُ اللَّهُ.
اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ مِثْلُ ذَلِكَ.
حَدَّثَنَا سَحْنُونٌ عَنْ ابْنِ وَهْبٍ عَنْ يُونُسَ عَنْ رَبِيعَةَ أَنَّهُ قَالَ: إذَا فُلِّسَ الرَّجُلُ وَتَحَاصَّ غُرَمَاؤُهُ مَالَهُ، فَمَنْ بَايَعَهُ بَعْدَ ذَلِكَ فَإِنَّمَا بَايَعَهُ في غَيْرِ أَمْوَالِ الْغُرَمَاءِ الَّذِينَ فَلَّسُوهُ، وَإِنَّمَا بَايَعُوهُ في ذِمَّتِهِ وَفيمَا يَسْتَقْبِلُ مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَإِفَادَتِهِ،
فَإِنْ أُعْدِمَ الثَّانِيَةَ، فَاَلَّذِينَ بَايَعُوهُ بَعْدَ عَدَمِهِ الْأَوَّلِ، أَحَقُّ بِمَالِهِ فيتَحَاصُّونَ فيهِ دُونَ الْغُرَمَاءِ الْأَوَّلِينَ، إلَّا أَنْ يَكُونَ عَقْلٌ في ذِمَّةٍ أَوْ مِيرَاثِ وَرَثَةٍ فَأَمَّا كُلُّ عَمَلٍ أَدَارَهُ أَوْ كَانَ مِمَّا رَجَعَتْ بِهِ الْأَرْزَاقُ عَلَيْهِ، فَهُوَ لِلَّذِينَ بَايَعُوهُ بَعْدَ عَدَمِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَهُمْ خَاصَّةً لِمَا خَرَجَتْ فيهِ أَمْوَالُهُمْ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَبْلُغَ في النَّاسِ إلَّا بِمُعَايَشَةِ مَنْ عَايَشَهُ وَمُدَايَنَةِ مَنْ دَايَنَهُ وَابْتِغَائِهِ الرِّزْقَ مِنْ رَبِّهِ بِالْإِدَارَةِ وَالتِّجَارَةِ.
فَأَمَّا الَّذِينَ يُفَلِّسُونَ غَرِيمَهُمْ، فَإِنَّ حُقُوقَهُمْ تَدْخُلُ في فُضُولٍ إنْ كَانَتْ بِيَدَيْهِ بَعْدَ قَضَاءِ حُقُوقِ الْآخَرِينَ.